الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآية رقم (256): قوله تعالى: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ}. فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} الدين في هذه الآية المعتقد والملة بقرينة قوله: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}. والإكراه الذي في الأحكام من الايمان والبيوع والهبات وغيرها ليس هذا موضعه، وإنما يجئ في تفسير قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ}. وقرأ أبو عبد الرحمن {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} وكذا روى عن الحسن والشعبي، يقال: رشد يرشد رشدا، ورشد يرشد رشدا: إذا بلغ ما يحب. وغوى ضده، عن النحاس. وحكى ابن عطية عن أبى عبد الرحمن السلمى أنه قرأ {الرشاد} بالألف. وروى عن الحسن أيضا {الرشد} بضم الراء والشين. {الْغَيِّ} مصدر من غوى يغوى إذا ضل في معتقد أو رأى، ولا يقال الغى في الضلال على الإطلاق. الثانية: اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أقوال: (الأول) قيل إنها منسوخة، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام، قاله سليمان بن موسى، قال: نسختها {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ}. وروى هذا عن ابن مسعود وكثير من المفسرين. (الثاني) ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، والذين يكرهون أهل الأوثان فلا يقبل منهم إلا الإسلام فهم الذين نزل فيهم {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ}. هذا قول الشعبي وقتادة والحسن والضحاك. والحجة لهذا القول ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: اسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمدا بالحق. قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إلى قريب! فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ}. (الثالث) ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال: نزلت هذه في الأنصار، كانت تكون المرأة مقلاتا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم كثير من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا! فأنزل الله تعالى: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}. قال أبو داود: والمقلات التي لا يعيش لها ولد. في رواية: إنما فعلنا ما فعلنا ونحن نرى أن دينهم أفضل مما نحن عليه، وأما إذا جاء الله بالإسلام فنكرههم عليه فنزلت: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} من شاء التحق بهم ومن شاء دخل في الإسلام. وهذا قول سعيد بن جبير والشعبي ومجاهد إلا أنه قال: كان سبب كونهم في بنى النضير الاسترضاع. قال النحاس: قول ابن عباس في هذه الآية أولى الأقوال لصحة إسناده، وأن مثله لا يؤخذ بالرأى. (الرابع) قال السدى: نزلت الآية في رجل من الأنصار يقال له أبو حصين كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الخروج أتاهم أبنا الحصين فدعوهما إلى النصرانية فتنصرا ومضيا معهم إلى الشام، فأتى أبوهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشتكيا أمرهما، ورغب في أن يبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يردهما فنزلت: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال: أبعدهما الله هما أول من كفر! فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين لم يبعث في طلبهما فأنزل الله جل ثناؤه {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ}، الآية ثم إنه نسخ {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ} فأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة. والصحيح في سبب قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} حديث الزبير مع جاره الأنصاري في السقي، على ما يأتي في النساء بيانه إن شاء الله تعالى. وقيل: معناها لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف مجبرا مكرها، وهو القول الخامس. وقول سادس، وهو أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا إذا كانوا كبارا، وإن كانوا مجوسا صغارا أو كبارا أو وثنيين فإنهم يجبرون على الإسلام، لأن من سباهم لا ينتفع بهم مع كونهم وثنيين، ألا ترى أنه لا تؤكل ذبائحهم ولا توطأ نساؤهم، ويدينون بأكل الميتة والنجاسات وغيرهما، ويستقذرهم المالك لهم ويتعذر عليه الانتفاع بهم من جهة الملك فجاز له الإجبار. ونحو هذا روى ابن القاسم عن مالك. وأما أشهب فإنه قال: هم على دين من سباهم، فإذا امتنعوا أجبروا على الإسلام، والصغار لا دين لهم فلذلك أجبروا على الدخول في دين الإسلام لئلا يذهبوا إلى دين باطل. فأما سائر أنواع الكفر متى بذلوا الجزية لم نكرههم على الإسلام سواء كانوا عربا أم عجما قريشا أو غيرهم. وسيأتي بيان هذا وما للعلماء في الجزية ومن تقبل منه في براءة إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} جزم بالشرط. والطاغوت مؤنثة من طغى يطغى.- وحكى الطبري يطغوإذا جاوز الحد بزيادة عليه. ووزنه فعلوت، ومذهب سيبويه أنه اسم مذكر مفرد كأنه اسم جنس يقع للقليل والكثير. ومذهب أبى على أنه مصدر كرهبوت وجبروت، وهو يوصف به الواحد والجمع، وقلبت لامه إلى موضع العين وعينه موضع اللام كجبذ وجذب، فقلبت الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها فقيل طاغوت، واختار هذا القول النحاس. وقيل: أصل طاغوت في اللغة مأخوذة من الطغيان يؤدى معناه من غير اشتقاق، كما قيل: لآل من اللؤلؤ. وقال المبرد: هو جمع. وقال ابن عطية: وذلك مردود. قال الجوهري: والطاغوت الكاهن والشيطان وكله رأس في الضلال، وقد يكون واحدا قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}. وقد يكون جمعا قال الله تعالى: {أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ} والجمع الطواغيت. {وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} عطف. {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى} جواب الشرط، وجمع الوثقى الوثق مثل الفضلى والفضل، فالوثقى فعلى من الوثاقة، وهذه الآية تشبيه. واختلفت عبارة المفسرين في الشيء المشبه به، فقال مجاهد: العروة الايمان. وقال السدى: الإسلام. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك: لا إله إلا الله، وهذه عبارات ترجع إلى معنى واحد. ثم قال: {لَا انْفِصامَ لَها} قال مجاهد: أي لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أي لا يزيل عنهم أسم الايمان حتى يكفروا. والانفصام: الانكسار من غير بينونة. والقصم: كسر ببينونة، وفى صحيح الحديث: «فيفصم عنه الوحى وإن جبينه ليتفصد عرقا» أي يقلع. قال الجوهري: فصم الشيء كسره من غير أن يبين، تقول: فصمته فانفصم، قال الله تعالى: {لَا انْفِصامَ لَها} وتفصم مثله، قال ذو الرمة يذكر غزالا يشبهه بدملج فضة: وإنما جعله مفصوما لتثنيه وانحنائه إذا نام. ولم يقل مقصوم بالقاف فيكون بائنا بآثنين. وأفصم المطر: أقلع. وأفصمت عنه الحمى. ولما كان الكفر بالطاغوت والايمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات {سَمِيعٌ} من أجل النطق {عَلِيمٌ} من أجل المعتقد. .تفسير الآية رقم (257): {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} الولي فعيل بمعنى فاعل. قال الخطابي: الولي الناصر ينصر عباده المؤمنين، قال الله عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ}، وقال: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ}. قال قتادة: الظلمات الضلالة، والنور الهدى، وبمعناه قال الضحاك والربيع. وقال مجاهد وعبدة ابن أبى لبابة: قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} نزلت في قوم آمنوا بعيسى فلما جاء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفروا به، فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات. قال ابن عطية: فكأن هذا المعتقد أحرز نورا في المعتقد خرج منه إلى الظلمات، ولفظ الآية مستغن عن هذا التخصيص، بل هو مترتب في كل أمة كافرة آمن بعضها كالعرب، وذلك أن من آمن منهم فالله وليه أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الايمان، ومن كفر بعد وجود النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الداعي المرسل فشيطانه مغوية، كأنه أخرجه من الايمان إذ هو معه معد واهل للدخول فيه، وحكم عليهم بالدخول في النار لكفرهم، عدلا منه، لا يسأل عما يفعل. وقرأ الحسن {أولياؤهم الطواغيت} يعني الشياطين، والله أعلم. .تفسير الآية رقم (258): فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} هذه ألف التوقيف، وفى الكلام معنى التعجب، أي اعجبوا له. وقال الفراء: {أَلَمْ تَرَ} بمعنى هل رأيت، أي هل رأيت الذي حاج إبراهيم، وهل رأيت الذي مر على قية، وهو النمروذ ابن كوش ابن كنعان ابن سام ابن نوح ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة! هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن إسحاق وزيد ابن أسلم وغيرهم. وكان إهلاكه لما قصد المحاربة مع الله تعالى بأن فتح الله تعالى عليه بابا من البعوض فستروا عين الشمس وأكلوا عسكره ولم يتركوا إلا العظام، ودخلت واحدة منها في دماغه فأكلته حتى صارت مثل الفأرة، فكان أعز الناس عنده بعد ذلك من يضرب دماغه بمطرقة عتيدة لذلك، فبقى في البلاء أربعين يوما. قال ابن جريج: هو أول ملك في الأرض. قال ابن عطية: وهذا مردود. وقال قتادة: هو أول من تجبر وهو صاحب الصرح ببابل. وقيل: إنه ملك الدنيا بأجمعها، وهو أحد الكافرين، والآخر بخت نصر. وقيل: إن الذي حاج إبراهيم نمروذ ابن فالخ ابن عابر ابن شالخ ابن أرفخشد ابن سام، حكى جميعه ابن عطية. وحكى السهيلي أنه النمروذ ابن كوش ابن كنعان ابن حام ابن نوح وكان ملكا على السواد وكان ملكه الضحاك الذي يعرف بالازدهاق واسمه بيوراسب ابن أندراست وكان ملك الأقاليم كلها، وهو الذي قتله أفريدون ابن أثفيان، وفيه يقول حبيب: وكان الضحاك طاغيا جبارا ودام ملكه ألف عام فيما ذكروا. وهو أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل، وللنمروذ ابن لصلبه يسمى كوشا أو نحو هذا الاسم، وله ابن يسمى نمروذ الأصغر. وكان ملك نمروذ الأصغر عاما واحد ا، وكان ملك نمروذ الأكبر أربعمائة عام فيما ذكروا. وفى قصص هذه المحاجة روايتان: إحداهما أنهم خرجوا إلى عيد لهم فدخله إبراهيم على أصنامهم فكسرها، فلما رجعوا قال لهم: أتعبدون ما تنحتون؟ فقالوا: فمن تعبد؟ قال: أعبد ربى الذي يحيى ويميت. وقال بعضهم: إن نمروذ كان يحتكر الطعام فكانوا إذا احتاجوا إلى الطعام يشترونه منه، فإذا دخلوا عليه سجدوا له، فدخل إبراهيم فلم يسجد له، فقال: مالك لا تسجد لي! قال: أنا لا أسجد إلا لربي. فقال له نمروذ: من ربك!؟ قال إبراهيم: ربى الذي يحيى ويميت. وذكر زيد ابن أسلم أن النمروذ هذا قعد يأمر الناس بالميرة، فكلما جاء قوم يقول: من ربكم وإلهكم؟ فيقولون أنت، فيقول: ميروهم. وجاء إبراهيم عليه السلام يمتار فقال له: من ربك وإلهك؟ قال إبراهيم: ربى الذي يحيى ويميت، فلما سمعها نمروذ قال: أنا أحيى وأميت، فعارضه إبراهيم بأمر الشمس فبهت الذي كفر، وقال لا تميروه، فرجع إبراهيم إلى أهله دون شيء فمر على كثيب رمل كالدقيق فقال في نفسه: لو ملأت غرارتي من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهم، فذهب بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلوا يلعبون فوق الغرارتين ونام هو من الإعياء، فقالت امرأته: لو صنعت له طعاما يجده حاضرا إذا انتبه، ففتحت إحدى الغرارتين فوجدت أحسن ما يكون من الحوارى فخبزته، فلما قام وضعته بين يديه فقال: من أين هذا؟ فقالت: من الدقيق الذي سقت. فعلم إبراهيم أن الله تعالى يسر لهم ذلك. قلت: وذكر أبو بكر ابن أبى شيبة عن أبى صالح قال: انطلق إبراهيم النبي عليه السلام يمتار فلم يقدر على الطعام، فمر بسهلة حمراء فأخذ منها ثم رجع إلى أهله فقالوا: ما هذا؟ فقال: حنطة حمراء، ففتحوها فوجدوها حنطة حمراء، قال: وكان إذا زرع منها شيئا جاء سنبله من أصلها إلى فرعها حبا متراكبا. وقال الربيع وغيره في هذا القصص: إن النمروذ لما قال أنا أحيى وأميت أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر فقال: قد أحييت هذا وأمت هذا، فلما رد عليه بأمر الشمس بهت. وروى في الخبر: أن الله تعالى قال وعزتي وجلالي لا تقوم الساعة حتى آتى بالشمس من المغرب ليعلم أنى أنا القادر على ذلك. ثم أمر نمروذ بإبراهيم فالقى في النار، وهكذا عادة الجبابرة فإنهم إذا عورضوا بشيء وعجزوا عن الحجة اشتغلوا بالعقوبة، فأنجاه الله من النار، على ما يأتي. وقال السدى: إنه لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك- ولم يكن قبل ذلك دخل عليه- فكلمه وقال له: من ربك؟ فقال: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. قال النمروذ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، وأنا آخذ أربعة نفر فأدخلهم بيتا ولا يطعمون شيئا ولا يسقون حتى إذا جاعوا أخرجتهم فأطعمت اثنين فحييا وتركت اثنين فماتا. فعارضه إبراهيم بالشمس فبهت. وذكر الأصوليون في هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام لما وصف ربه تعالى بما هو صفة له من الأحياء والإماتة لكنه أمر له حقيقة ومجاز، قصد إبراهيم عليه السلام إلى الحقيقة، وفزع نمروذ إلى المجاز وموه على قومه، فسلم له إبراهيم تسليم الجدل وانتقل معه من المثال وجاءه بأمر لا مجاز فيه {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} أي انقطعت حجته ولم يمكنه أن يقول أنا الآتي بها من المشرق، لأن ذوى الألباب يكذبونه. الثانية: هذه الآية تدل على جواز تسمية الكافر ملكا إذا آتاه الملك والعز والرفعة في الدنيا، وتدل على إثبات المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة. وفى القرآن والسنة من هذا كثير لمن تأمله، قال الله تعالى: {قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ} أي من حجة. وقد وصف خصومة إبراهيم عليه السلام قومه ورده عليهم في عبادة الأوثان كما في سورة الأنبياء وغيرها. وقال في قصة نوح عليه السلام: {قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا} الآيات إلى قوله: {وَأَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ}. وكذلك مجادلة موسى مع فرعون إلى غير ذلك من الآي. فهو كله تعليم من الله عز وجل السؤال والجواب والمجادلة في الدين، لأنه لا يظهر الفرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل. وجادل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل الكتاب وبأهلهم بعد الحجة، على ما يأتي بيانه في آل عمران. وتحاج آدم وموسى فغلبه آدم بالحجة. وتجادل أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم السقيفة وتدافعوا وتقرروا وتناظروا حتى صدر الحق في أهله، وتناظروا بعد مبايعة أبى بكر في أهل الردة، إلى غير ذلك مما يكثر إيراده. وفى قول الله عز وجل: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} دليل على أن الاحتجاج بالعلم مباح شائع لمن تدبر. قال المزني صاحب الشافعي: ومن حق المناظرة أن يراد بها الله عز وجل وأن يقبل منها ما تبين. وقالوا: لا تصح المناظرة ويظهر الحق بين المتناظرين حتى يكونوا متقاربين أو مستويين في مرتبة واحدة من الدين والعقل والفهم والانصاف، وإلا فهو مراء ومكابرة. قراءات- قرأ على ابن أبى طالب {ألم تر} بجزم الراء، والجمهور بتحريكها، وحذفت الياء للجزم. {أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} في موضع نصب، أي لان آتاه الله، أو من أجل أن آتاه الله. وقرأ جمهور القراء {أن أحيى} بطرح الألف التي بعد النون من {أنا} في الوصل، وأثبتها نافع وابن أبى أويس، إذا لقيتها همزة في كل القرآن إلا في قوله تعالى: {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ} فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القراء لقلة ذلك، فإنه لم يقع منه في القرآن إلا ثلاثة مواضع أجراها مجرى ما ليس بعده همزة لقلته فحذف الألف في الوصل. قال النحويون: ضمير المتكلم الاسم فيه الهمزة والنون، فإذا قلت: أنا أو أنه فالألف والهاء لبيان الحركة في الوقف، فإذا اتصلت الكلمة بشيء سقطتا، لأن الشيء الذي تتصل به الكلمة يقوم مقام الالف، فلا يقال: أنا فعلت بإثبات الألف إلا شاذا في الشعر كما قال الشاعر: قال النحاس: على أن نافعا قد اثبت الألف فقرأ {أنا أحيى وأميت} ولا وجه له. قال مكي: والألف زائدة عند البصريين، والاسم المضمر عندهم الهمزة والنون وزيدت الألف للتقوية. وقيل: زيدت للوقف لتظهر حركة النون. والاسم عند الكوفيين أَنَا بكماله، فنافع في إثبات الألف على قولهم على الأصل، وإنما حذف الألف من حذفها تخفيفا، ولان الفتحة تدل عليها. قال الجوهري: وأما قولهم أنا فهو اسم مكنى وهو للمتكلم وحده، وإنما بنى على الفتح فرقا بينه وبين أن التي هي حرف ناصب للفعل، والألف الأخيرة إنما هي لبيان الحركة في الوقف، فإن توسطت الكلام سقطت إلا في لغة رديئة، كذا قال: وبهت الرجل وبهت وبهت إذا انقطع وسكت متحيرا، عن النحاس وغيره. وقال الطبري: وحكى عن بعض العرب في هذا المعنى بهت بفتح الباء والهاء. قال ابن جنى قرأ أبو حيوة: فبهت الذي كفر بفتح الباء وضم الهاء، وهى لغة في بهت بكسر الهاء. قال: وقرأ ابن السميقع {فبهت} بفتح الباء والهاء على معنى فبهت إبراهيم الذي كفر، فالذي في موضع نصب. قال: وقد يجوز أن يكون بهت بفتحها لغة في بهت. قال: وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة {فبهت} بكسر الهاء كغرق ودهش. قال: والأكثرون بالضم في الهاء. قال ابن عطية: وقد تأول قوم في قراءة من قرأ {فبهت} بفتحها أنه بمعنى سب وقذف، وأن نمروذ هو الذي سب حين انقطع ولم تكن له حيلة.
|